نفقات القصور والفساد المالي في دولة المماليك

{title}
أخبار الأردن -

   عبد المعين الطلفاح

عاش سلاطين المماليك ومَن يلوذ بهم حياة ترف وبذخ صاخبة، وأنفقوا عليها من أموال الدولة مبالغ طائلة، لم يفرقوا خلالها بين أموالهم الخاصة وأموال الدولة العامّة.

أطلعنا على ذلك الوقوف على سيرهم، وكذا التركات العظيمة التي وجدت بعد مماتهم، كما أن جلبهم المماليك الخاصة بهم، التي كانوا يحكمون بهم قبضتهم على السلطة، أو يواجهون المناوئين لهم، قد كلفهم مبالغ طائلة من أموال الدولة.

ولعلّ الوقوف على النفقات التي كانت تصرف على الطعام في القصور السلطانية يكفي دلالة على الفساد المالي في الدولة، ولكن الأمر كان أكبر من ذلك وأعظم، وقد كانت تقدم في القصور السلطانية خمس موائد من الطعام يوميًّا، ربما يأكل منها السلطان وربما لا يأكل، وكانت تكلفة تلك الموائد تتفاوت من سلطان لآخر، ولكنها مع ذلك ظلت تستنزف مبالغ طائلة من أموال الدولة، وكميات كبيرة من اللحوم، وغيرها، ففي زمن السلطان الناصر بن قلاوون (ت:741هـ) كانت حاجة مطبخه اليومية من اللحوم ستةً وثلاثين ألف رطل، ولم يختلف الحال عن ذلك زمن أولاده من بعده.

ثم في عهد الدولة الثاني كانت تكلفة موائد السلطان برقوق (ت:801هـ) اليومية خمسة آلاف رطل من اللحم سوى الإوزّ والدجاج، وكان يتبع ذلك نفقات أخرى كثيرة، أغرت بعض القائمين عليها بالسرقة منها؛ ما حمل بعض أولئك السلاطين أن يطلب طبْخ ذلك الطعام بين يديه.

ثم إن سعي أولئك السلاطين لكمال الرّفاهية والأبّهة في طعامهم وشرابهم قد دعاهم إلى جلب الثلوج من جبال الشام إلى مصر، فقرروا لذلك هجنًا تحمله في البر، وسفنًا تحمله في البحر، وكلَّفهم ذلك أموالًا كثيرة، واستمر الأمر على ذلك أوقات الجوع وغلاء الأسعار وندرة الأقوات؛ حتى أمر السلطان لاجين (ت:698هـ) بإلغائه، ثم عاد الحال بعده لما كان عليه قبله، هذا بالإضافة إلى الإنفاق الكثير على الإٍصطبلات والخيول الخاصة بهم، والصيد وتربية الحمام، وشراء الجواري، وغيرها من النفقات الكثيرة.

وكان لنساء أولئك السلاطين دور كبير في تبديد ثروة الدولة المالية؛ فقد أنفق السلاطين أموالًا طائلة على الزواج بهن، ثم خُصصت لكل واحدةٍ منهن دار كبيرة ضخمة، قال ابن شاهين (ت:873هـ) عند ذكرها: "ولهنّ أبهة عظيمة في ذاتهن، ولو أردنا وصف ملبوس كل منهن، وتجمل بيوتهن؛ لاحتجنا إلى مجلدات"، وذلك دليل على كثرة الأموال التي كانت تنفق على تلك النساء حتى إن تركة إحداهن قد زادت على 600 ألف دينار.

وقد تبدت مظاهر الإسراف في الإنفاق على زواج أبناء أولئك السلاطين أيضًا، فلما زوج الناصر محمد ابنه آنوك، كان الجهاز على ثمانمائة جمل، وستة وثلاثين قطارًا من البغال، وكان ما فيه من ذهب ثمانين قنطارًا مصريًّا، ومع ذلك كله "لـمَّا رآه السلطان فلم يعجبه، فقال: رأيت شوار بنت سلار أحسن من هذا وأكثر، ومثل هذا ما يقابل به آنوك"، ثم إن الناصر "جهز إحدى عشرة ابنة له بالجهاز العظيم؛ فكانت أقلهن جهازًا بثمانمائة ألف دينار".

كل ذلك كان يصرف من أموال الدولة وخيراتها، وقد ذكر المقريزي (ت:845هـ) أن حال الأمراء لم يكن يختلف عن حال السلاطين كثيرًا، فكان منهم من: "يجهز بناته بالجواهر واللآلئ، ويعمل الإناء الذي يستنجي منه في الخلاء من فضة، ويرصع مداس زوجته بأصناف الجواهر".

ثم كان من النفقات السلطانية الخاصة التي أثقلت كاهل الخزانة ثم أفرغتها؛ الإنفاق على شراء المماليك الذين كان يتخذهم السلطان عصبة يُحكم بهم قبضته على السلطة، أو يواجه بهم خصومه في الحكم، وقد كان يصل إلى ميناءَ دمياط والإسكندرية كل عام قرابة الألفي مملوك، يتراوح سعر الواحد منهم بين 70 و140 دوكة، وذلك بحسب عرقه ومواصفاته.

وقد أكثر الناصر بن قلاوون وأبناؤه من بعده من جلب المماليك، والإنفاق عليهم من بيت المال، أو من الديوان الخاص، حتى بلغ ما كان ينفقه الناصر بن قلاوون على شراء المماليك سنويًا 220 ألف درهم، وكان يدفع أحيانًا من 40 ألفًا إلى 100 ألف درهم ثمنًا لمملوك واحد، وبلغ ما كان يتقاضاه أجناد الناصر كل سنة قرابة الـ (19) مليون دينار. فذاعت أخبار تلك النفقات الباهظة في البلاد حولهم، وصار أهلها يطمعون في الحصول على شيء من أموال البلاط المصري، بل لقد قام بعضهم في تركستان وغيرها ببيع أولادهم وبناتهم لذلك، وأخذوا يتوافدون إلى مصر.

تابعوا أخبار الأردن على
تصميم و تطوير